مسألة - الحكم في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم إنهما ناجيان وليسا في النار صرح بذلك جمع من العلماء، ولهم في تقرير ذلك مسالك:
المسلك الأول:
أنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا وأنه لا يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام وأنه إذا قتل يضمن بالدية والكفارة نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه وسائر الأصحاب بل زاد بعض الأصحاب وقال أنه يجب في قتله القصاص ولكن الصحيح خلافه لأنه ليس بمسلم حقيقي وشرط القصاص المكافأة. وقد علل بعض الفقهاء كونه إذا مات لا يعذب بأنه على أصل الفطرة ولم يقع منه عناد ولا جاءه رسول فكذبه. وهذا المسلك أول ما سمعته في هذا المقام الذي نحن فيه من شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي فإنه سئل عن والد النبي صلى الله عليه وسلم هل هو في النار فزأر في السائل زأرة شديدة فقال له السائل هل ثبت إسلامه فقال إنه مات في الفترة ولا تعذيب قبل البعثة، ونقله سبط ابن الجوزي في كتاب مرآة الزمان عن جماعة فإنه حكى كلام جده على حديث إحياء أمه صلى الله عليه وسلم ثم قال ما نصه: وقال قوم
[ص 403]
قد قال الله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) والدعوة لم تبلغ أباه وأمه فما ذنبهما. وجزم به الأبي في شرح مسلم وسأذكر عبارته. وقد ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم يتمحنون يوم القيامة وآيات مشيرة إلى عدم تعذيبهم وإلى ذلك مال حافظ العصر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر في بعض كتبه فقال:
((والظن بآله صلى الله عليه وسلم يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له صلى الله عليه وسلم لتقربهم عينه.))
ثم رأيته قال في الإصابة: ورد من عدة طرق في حق الشيخ الهرم ومن مات في الفترة ومن ولد أكمه أعمى أصم ومن ولد مجنونا أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ ونحو ذلك أن كلا منهم يدلي بحجة ويقول لو عقلت أو ذكرت لآمنت فترفع لهم نار ويقال أدخلوها فمن دخلها كانت له بردا وسلاما ومن امتنع أدخلها كرها هذا معنى ما ورد من ذلك.
قال: وقد جمعت طرقه في جزء مفرد قال ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعا فينجو إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن وثبت أنه في ضحضاح من نار، وقد جعلت قصة الامتحان داخلة في هذا المسلك مع أن الظاهر أنها مسلك مستقل لكني وجدت ذلك لمعنى دقيق لا يخفى على ذوي التحقيق.
(ذكر الآيات المشيرة إلى ذلك):
الأولى:
قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهذه الآية هي التي اطبقت أئمة السنة على الاستدلال بها في أنه لا تعذيب قبل البعثة وردوا بها على المعتزلة ومن وافقهم في تحكم العقل. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن قتادة في قوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) قال إن الله ليس بمعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبر أو تأتيه من الله بينة.
الآية الثانية:
قوله تعالى (ذلك إن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) أورد هذه الآية الزركشي في شرح جمع الجوامع استدلالا على قاعدة أن شكر المنعم ليس بواجب عقلا بل بالسمع.
الثالثة:
قوله تعالى (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)
[ص 404]
أورد هذه الزركشي أيضا. وأخرج ابن أبي خاتم في تفسيره عند هذه الآية بسند حسن عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الهالك في الفترة يقول رب لم يأتني كتاب ولا رسول ثم قرأ هذه الآية (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين).
الرابعة:
قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى).
أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عند هذه الآية عن عطية العوفي قال الهالك في الفترة يقول رب لم يأتني كتاب ولا رسول وقرأ هذه الآية لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا - إلى آخر الآية.
الخامسة:
قوله تعالى (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا).
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وقتادة في الآية قالا لم يهلك الله ملة حتى يبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فلما كذبوا وظلموا بذلك هلكوا.
السادسة:
قوله تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين).
السابعة:
قوله تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين). أخرج عبد بن حميدو ابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن قتادة في الآية قال ما أهلك الله من قرية إلا من بعد الحجة والبينة والعذر حتى يرسل الرسل وينزل الكتب تذكرة لهم وموعظة وحجة لله ذكرى وما كنا ظالمين. يقول ما كنا لنعذبهم إلا من بعد البينة والحجة. الثامنة: قوله تعالى (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم وما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) قال المفسرون احتج عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو المراد بالنذير في الآية.
(ذكر الأحاديث الواردة في أن أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع منهم أدخل الجنة ومن عصى أدخل النار):
الحديث الأول:
أخرج الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية في مسنديهما والبيهقي في كتاب الاعتقاد وصححه عن
[ص 405]
الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربعة يمتحنون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما اسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن أدخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها.
الحديث الثاني:
أخرج أحمد وإسحاق بن راهوية في مسنديهما وابن مردويه في تفسيره والبيهقي في الاعتقاد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربعة يمتحنون فذكر مثل حديث الأسود بن سريع سواء.
الحديث الثالث:
أخرج البزار في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ويقول المعتوه أي رب لم أجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا. ويقول المولود لم أدرك العمل قال فيرفع لهم؟ فيقال لهم ردوها أو قال ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك؟ ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول تبارك وتعالى واياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب، في إسناده عطية العوفي فيه ضعف والترمذي يحسن حديثه وهذا الحديث له شواهد تقتضي الحكم بحسنه وثبوته.
الحديث الرابع:
أخرج البزار وأبو يعلى في مسنديهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بأربعة يوم القيام بالمولود والمعتوه ومن مات الفترة وبالشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الله تبارك وتعالى لعنق من جهنم أبرزي فيقول لهم إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب الله عليه الشقاء يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفرق ومن كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها مسرعا فيقول الله قد عصيتموني فأنتم لرسلي أشد
[ص 406]
تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار.
الحديث الخامس:
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم تأتنا رسل قال وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه. قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) إسناده صحيح على شرط الشيخين ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع.
الحديث السادس:
أخرج البزار والحاكم في مستدركه عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم وعلى ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أريتكم أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيقولون نعم فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخولها فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فرجعوا إلى ربهم فيقولون ربنا أجرنا منها فيقول لهم الم تزعموا أني أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليم بردا وسلاما قال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم.
الحديث السابع:
أخرج الطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك فيقول الرب إني آمركم بأمر فتطيعون فيقولون نعم فيقول اذهبوا فادخلوا النار قال ولو دخلوها ما ضرتهم فتخرج عليهم فرائص فيظنون
[ص 407]
أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك فيقول الرب قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم.
قال الكيا الهراسي في تعليقه في الأصول في مسألة شكر المنعم:
اعلم أن الذي استقر عليه آراء أهل السنة قاطبة أنه لا مدرك للأحكام سوى الشرع المنقول ولا يتلقى حكم من قضيات العقول فأما من عدا أهل الحق من طبقات الخلق كالرافضة والكرامية والمعتزلة وغيرهم فإنهم ذهبوا إلى أن الأحكام منقسمة فمنها ما يتلقى من الشرع المنقول ومنها ما يتلقى من قضيات العقول قال: وأما نحن فنقول لا يجب شيء قبل مجيء الرسول فإذا ظهر واقام المعجزة تمكن العاقل من النظر فنقول لا يعلم أول الواجبات إلا بالسمع فإذا جاء الرسول وجب عليه النظر وعند هذا يسأل المستطرفون فيقولون ما الواجب الذي هو طاعة وليس بقربة وجوابه أن النظر الذي هو أول الواجبات طاعة وليس بقربة لأنه ينظر للمعرفة فهو مطيع وليس بمتقرب لأنه إنما يتقرب إلى من يعرفه، قال وقد ذكر شيخنا الإمام في هذا المقام شيئا حسنا فقال قبل مجيء الرسول تتعارض الخواطر والطرق إذ ما من خاطر يعرض له إلا ويمكن أن يقدر أن يخطر خاطر آخر على نقيضه فتتعارض الخواطر ويقع العقل في حيرة ودهشة فيجب التوقف إلى أن تنكشف الغمة وليس ذلك إلا بمجيء الرسول وههنا قال الأستاذ أبو إسحاق أن قول لا أدري نصف العلم ومعناه أنه انتهى علمي إلى حد وقف عند مجازه العقل وهذا إنما يقوله من دقق في العلم وعرف مجاري العقل مما لا يجري فيه ويقف عنده انتهى.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول:
شكر المنعم لا يجب عقلا خلافا للمعتزلة لنا أنه لو تحقق الوجوب قبل البعثة لعذب تاركه فلا وجوب أما الملازمة فبينة وأما أنه لا تعذيب فلقوله سبحانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى التعذيب إلى غاية البعثة فينتفي وإلا وقع الخلف في قول الله وهو محال انتهى. وذكر أتباعه مثل ذلك كصاحب الحاصل والتحصيل والبيضاوي
[ص 408]
في منهاجه. وقال القاضي تاج الدين السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب على مسألة شكر المنعم تتخرج مسألة من لم تبلغه الدعوة فعندنا يموت ناجيا ولا يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام وهو مضمون بالكفارة والدية ولا يجب القصاص على قاتله على الصحيح. وقال البغوي في التهذيب أما من لم تبلغه الدعوة فلا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام فإن قتل قبل أن يدعي إلى الإسلام وجب في قتله الدية والكفارة وعند أبي حنيفة لا يجب الضمان بقتله وأصله أنه عندهم محجوج عليه بعقله وعندنا هو غير محجوج عليه قبل بلوغ الدعوة إليه لقوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فثبت أنه لا حجة عليه قبل مجيء الرسول انتهى. وقال الرافعي في الشرح من لم تبلغه الدعوة لا يجوز قتله قبل الإعلام والدعاء إلى الإسلام ولو قتل كان مضمونا خلافا لأبي حنيفة وبني الخلاف على أنه محجوج عليه بالعقل عنده وعندنا من لم تبلغه الدعوى لا تثبت عليه الحجة ولا تتوجه المؤاخذة قال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) انتهى.
وقال الغزال في البسيط من لم تبلغه الدعوة يضمن بالدية والكفارة لا بالقصاص على الصحيح لأنه ليس مسلما على التحقيق وإنما هو في معنى المسلم. وقال ابن الرفعة في الكفاية لأنه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد. وقال النووي في شرح مسلم في مسألة أطفال المشركين المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون أنهم في الجنة لقوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) قال وإذا كان لا يعذب البالغ لكونه لم تبلغه الدعوة فغيره أولى. انتهى فإن قلت هذا المسلك الذي قررته هل هو عام في أهل الجاهلية كلهم. قلت لا بل هو خاص بمن لم تبلغه دعوة نبي أصلا. أما من بلغته منهم دعوة أحد من الأنبياء السابقين ثم أصر على كفره فهو في النار قطعا وهذا لا نزاع فيه. وأما الأبوان الشريفان فالظاهر من حالهما ما ذهبت إليه هذه الطائفة من عدم بلوغهما دعوة أحد وذلك لمجموع أمور تأخر زمانهما وبعد ما بينهما وبين الأنبياء السابقين فإن آخر الأنبياء قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام
[ص 409]
وكانت الفترة بينه وبين بعثة نبينا نحو ستمائة سنة ثم أنهما كانا في زمن جاهلية وقد طبق الجهل الأرض شرقا وغربا وفقد من يعرف الشرائع ويبلغ الدعوة على وجهها إلا نفرا يسيرا من أحبار أهل الكتاب مفرقين في أقطار الأرض كالشام وغيرها ولم يعهد لهما تقلب في الأسفار سوى إلى المدينة ولا عمرا عمرا طويلا بحيث يقع لهما فيه التنقيب والتفتيش فإن والد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش من العمر إلا قليلا.
قال الإمام الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه الدرة السنية في مولد سيد البرية:
كان سن عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاما ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرا لأهله فمات بها عند أخواله من بني النجار والنبي صلى الله عليه وسلم حمل على الصحيح انتهى. وأمه قريبة من ذلك لاسيما وهي امرأة مصونة محجبة في البيت عن الاجتماع بالرجال والغالب على النساء أنهن لا يعرفن ما الرجال فيه من أمر الديانات والشرائع خصوصا في زمان الجاهلية الذي رجاله لا يعرفون ذلك فضلا عن نسائه. ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم تعجب من بعثته أهل مكة وقالوا أبعث الله بشرا رسولا. وقالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. فلو كان عندهم علم من بعثة الرسل ما أنكروا ذلك وربما كانوا يظنون أن إبراهيم بعث بما هم عليه فإنهم لم يجدو من يبلغهم شريعة إبراهيم على وجهها لدثورها وفقد من يعرفها إذ كان بينهم وبين زمن إبراهيم أزيد من ثلاثة آلاف سنة فاتضح بذلك صحة دخولهما في هذا المسلك.
ثم رأيت الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في أماليه ما نصه كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا نبينا صلى الله عليه وسلم قال فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة. هذا كلامه فبان بذلك أن الوالدين الشريفين من أهل الفترة بلا شك لأنهما ليسا من ذرية عيسى ولا من قومه ثم يرشح ما قال حافظ العصر أبو الفضل بن حجر أن الظن بهما أن يطيعا عند الامتحان أمران أحدهما: ما أخرجه الحاكم في المستدرك
[ص 410]
وصححه عن ابن مسعود قال قال شاب من الأنصار لم أر رجلا كان أكثر سؤالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه يا رسول الله أرأيت أبواك في النار فقال ما سألتهما ربي فيطيعني فيهما وإني لقائم يومئذ المقام المحمود. فهذا الحديث يشعر بأنه يرتجي لهما الخير عند قيامه المقام المحمود وذلك بأن يشفع لهما فيوفقا للطاعة إذا امتحنا حينئذ كما يمتحن أهل الفترة ولا شك في أنه يقال له عند قيامه ذلك المقام سل تعط واشفع تشفع مكان في الأحاديث الصحيحة فإذا سأل ذلك أعطيه.
الأمر الثاني ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. ولهذا عمم الحافظ ابن حجر في قوله الظن بآل بيته كلهم أن يطيعوا عند الامتحان.
وحديث ثالث أخرج أبو سعد في شرف النبوة والملا في سيرته عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي فأعطاني ذلك أورده الحافظ محب الدين الطبري في كتابه ذخائر العقبى.
وحديث رابع أصرح من هذين: أخرج تمام الرازي في فوائده بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية- أورده المحب الطبري وهو من الحفاظ والفقهاء في كتابه ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى وقال إن ثبت فهو مؤول في أبي طالب على ما ورد في الصحيح من تخفيف العذاب عنه بشفاعته انتهى.
وإنما احتاج إلى تأويله في أبي طالب دون الثلاثة أبيه وأمه وأخيه يعني من الرضاعة لأن أبا طالب أدرك البعثة ولم يسلم والثلاثة ماتوا في الفترة. وقد ورد هذا الحديث من طريق آخر اضعف من هذا الطريق من حديث ابن عباس أخرجه أبو نعيم وغيره وفيه التصريح بأن الأخ من الرضاعة. فهذه أحاديث عدة يشد بعضها بعضا فإن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة طرقه وأمثلها حديث ابن مسعود فإن الحاكم صححه.
ومما يرشح ما نحن فيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا قال ثنا القاسم بن هاشم
[ص 411]
السمسار ثنا مقاتل بن سليمان الرملي عن ابي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سالت ربي أبناء العشرين من أمتي فوهبهم لي. ومما ينضم إلى ذلك وأن لم يكن صريحا في المقصود ما أخرجه الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من أشفع له يوم القيامة أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب، وما أورده المحب الطبري في ذخائر العقبى وعزاه لأحمد في المناقب عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحق نبيا لو أخذت بحلقة الجنة ما بدأت إلا بكم. وهذا أخرجه الخطيب في تاريخه من حديث يغنم عن أنس.
وما أورده أيضا وعزاه لابن البختري عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
((ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا ينتفع بلى حتى تبلغ حاكم وهم أحد قبيلتين من اليمن إني لأشفع فأشفع حتى أن من أشفع له ليشفع فيشفع حتى أن إبليس ليتطاول طمعا في الشفاعة.))
ونحو هذا ما أخرجه الطبراني من حديث أم هاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لا تنال أهل بيتي وأن شفاعتي تناول حاوحكم.))
" لطيفة":
نقل الزركشي في الخادم عن ابن دحية أنه جعل من أنواع الشفاعات التخفيف عن أبي لهب في كل يوم اثنين لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وأعتاقه ثويبة حين بشر به. قال وإنما هي كرامة له صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: ثم رأيت الإمام أبا عبد الله محمد بن خلف الأبي بسط الكلام على هذه المسألة في شرح مسلم عند حديث إن أبي واباك في النار فأورد قول النووي فيه أن من مات كافرا في النار ولا تنفعه قرابة الأقربين ثم قال قلت أنظر هذا الإطلاق وقد قال السهيلي ليس لنا أن نقول ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات. وقال تعالى ( إن الذين يؤذون الله ورسوله) ولعله يصح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل الله سبحانه فأحيا له أبويه فآمنا به ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا ولا يعجز الله سبحانه شيء ثم أورد قول النووي وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة لأنه
[ص 412]
بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل. ثم قال قلت تأمل ما في كلامه من التنافي فإن من بلغتهم الدعوى ليسوا بأهل فترة فإن أهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول ولا أدركوا الثاني كالإعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين ولكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنما يعنون التي بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم. ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة كصاحب المحجن وغيره. قلت أجاب عن ذلك عقيل بن أبي طالب بثلاثة أجوبة: الأول: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القاطع. الثاني قصر التعذيب على هؤلاء والله أعلم. الثالث قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير الشرائع وشرع من الضلال ما لا يعذر به فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:
الأول
من أدرك التوحيد ببصيرته ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعته كقس بن ساعدة وزيد ابن عمرو بن نفيل ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم كتبع وقومه.
القسم الثاني
من بدل وغير وأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه فحلل وحرم وهم الأكثر كعمرو بن لحي أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام فبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي وزادت طائفة من العرب على ما شرعه أن عبدوا الجن والملائكة وحرقوا البنين والبنات واتخذوا بيوتا جعلوا لها سدنة وحجابا يضاهون بها الكعبة كاللات والعزى ومناة.
القسم الثالث
من لم يشرك ولم يوحد ولا دخل في شريعة نبي ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا اخترع دينا بل بقي عمره على حال غفلة عن هذا كله وفي الجاهلية من كان كذلك.
فإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لكفرهم بما لا يعذبون به. وأما القسم الثالث فهم أهل الفترة حقيقة وهم غير معذبين للقطع كما تقدم. وأما القسم الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم في كل من قس وزيد أنه يبعث أمة وحده. وأما تبع ونحوه فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه مالم يلحق أحد